الإنصاف الترابي. المعركة التي لا تقبل التأجيل
تشكل الفوارق المجالية في المغرب أحد أخطر التحديات التي تهدد التماسك الاجتماعي وتقوّض الثقة في الدولة. فعندما يحسّ المواطن، خاصة في القرى والجبال وهوامش المدن، أنه محروم من أبسط حقوقه في التعليم والتطبيب والتكوين والعمل، بل وحتى من الطرق المعبدة وشبكات الاتصال، فإن ذلك يولّد شعورا عميقا بالإقصاء والتهميش. وهذا ما عبّر عنه الملك محمد السادس بوضوح حينما حذّر من وجود "مغربين: مغرب الفرص ومغرب الانتظار".
هذه الفوارق ليست مجرد أرقام جامدة، بل واقع يومي يُترجم في معاناة التلاميذ الذين يقطعون كيلومترات وسط الجبال للوصول إلى المدرسة، أو في نساء قرويات يضعن مواليدهن في غياب مراكز صحية مجهزة، أو في شباب يفتقدون فرص التكوين والتشغيل فقط لأن قراهم خارج تغطية الشبكات الطرقية والرقمية. إنها مظاهر تهدد العقد الاجتماعي والوحدة الوطنية.
أرقام صادمة
تقرير النموذج التنموي الجديد (2021) أكد هذه الحقيقة بوضوح: "الولوج غير المتكافئ إلى الصحة والتعليم والبنيات الأساسية يعمّق الإحساس باللاعدالة، ويحدّ من قدرات المواطنين على المشاركة في التنمية"، ودعا إلى جعل الإنصاف الترابي ركيزة مركزية لكل السياسات العمومية..
لماذا يتواصل الفشل؟
رغم المبادرات الكبرى مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ما زالت النتائج محدودة لعدة أسباب
دروس من تجارب دولية
المغرب: من الشعارات إلى الفعل
لا يحتاج المغرب إلى إعادة اختراع العجلة، بل إلى تفعيل ما جاء في تقرير النموذج التنموي الجديد، مع قرارات شجاعة وعملية.
لا يحتاج المرء إلى تقارير دولية ليدرك حجم التفاوتات، يكفي أن يزور بعض المناطق ليكتشف "المغرب العميق" بكل معاناته.
هذه الأمثلة ليست سوى غيض من فيض، لكنها تكشف بوضوح أن العدالة المجالية في المغرب ليست مجرد شعار، بل قضية حياة يومية لملايين المواطنين الذين يطالبون بحقوق أساسية: مدرسة قريبة، مستشفى مجهز، طريق سالك، وتغطية رقمية تُقرّبهم من العالم.
الخاتمة: العدالة المجالية.. مسؤولية دولة وأمل شعب
العدالة المجالية ليست مطلبا ثانويا ولا شعارا سياسيا لتزيين الخطب، بل هي جوهر العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. فلا معنى لدستور يقرّ بالمساواة إذا كان طفل من أيت عبدي أو مسمرير يقطع الجبال ليصل إلى مدرسة آيلة للسقوط، أو إذا كانت نساء أيت بوكماز يلدن خارج المراكز الصحية لغياب تجهيزات أساسية، أو إذا كان شباب جرادة والحوز يهاجرون قسرا بحثا عن فرصة حياة كريمة.
إن مسؤولية الدولة اليوم واضحة: ضمان حق الجميع في الصحة، والتعليم، والتكوين، والطرق، والاتصالات، دون تمييز بين مدينة وقرية، بين مركز وهوامش. وهذه ليست كلفة مالية تثقل الميزانية، بل استثمار في الاستقرار الاجتماعي واللحمة الوطنية، واستثمار في المستقبل.
وكما قال الملك محمد السادس: "لن أكون راضيا مهما بلغ النمو إذا لم يصل إلى جميع المغاربة". هذه ليست جملة عابرة، بل التزام صريح بضرورة إنصاف كل مناطق المغرب.
المغاربة، من أيت بوكماز إلى جرادة، ومن أيت عبدي إلى الحوز، لا يطلبون المستحيل؛ إنهم يطالبون فقط بحقوقهم الدستورية والإنسانية: مدرسة، مستشفى، طريق، وأنترنيت. فإذا تحققت هذه الأسس، ستتحول الهوامش إلى قاطرة، والمغرب العميق إلى رافعة حقيقية للتنمية.
العدالة المجالية ليست حلما بعيدا، بل واجبا عاجلا. والمغرب اليوم أمام فرصة تاريخية: إما أن يكون وطناً موحداً تسوده الإنصاف والكرامة، أو أن يبقى أسيراً لفوارق تهدد وحدته ومستقبله. الخيار واضح، والمسؤولية مشتركة، لكن القرار بيد الحكومة والأحزاب والدولة بكل مؤسساتها.
المراجع
[1] البنك الدولي (2023). تقرير المغرب الاقتصادي.
[2] البنك الدولي (2022). مؤشرات الفقر وعدم المساواة في المغرب.
[3] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2023). التنمية البشرية في المنطقة العربية: التفاوتات المجالية.
[4] منظمة الشفافية الدولية (2021). مؤشر مدركات الفساد: المغرب.
[5] المندوبية السامية للتخطيط (2022). المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب.
[6] البنك الدولي (2020). إثيوبيا: خفض الفقر وتعزيز النمو الشامل.
[7] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2019). تقرير التنمية البشرية: البرازيل.